سورة الأنعام - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


إنها اللمسات العريضة للحقيقة الكبيرة؛ والإيقاعات المديدة في مطلع السورة. وهي ترسم القاعدة الكلية لموضوع السورة ولحقيقة العقيدة:
{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}..
إنها اللمسات الأولى.. تبدأ بالحمد لله. ثناء عليه، وتسبيحاً له، واعترافاً بأحقيته للحمد والثناء، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء.. بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى.. الخلق.. وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود.. السماوات والأرض.. ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود.. الظلمات والنور.. فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك.. لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون؛ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه:
{ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}..
فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون، وآثارها الضائعة في النفس! يا للمفارقة التي تعدل الأجرام الضخمة، والمسافات الشاسعة، والظواهر الشاملة.. بل تزيد..
واللمسة الثانية:
{هو الذي خلقكم من طين، ثم قضى أجلاً، وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون}:
إنها لمسة الوجود الإنساني، التالي في وجوده للوجود الكوني. ولظاهرتي الظلمات والنور. لمسة الحياة الإنسانية في هذا الكون الخامد. لمسة النقلة العجيبة من عتمة الطين المظلم إلى نور الحياة البهيج؛ تتناسق تناسقاً فنياً جميلاً مع {الظلمات والنور}.. وإلى جانبها لمسة أخرى متداخلة: لمسة الأجل الأول المقضى للموت، والأجل الثاني المسمى للبعث.. لمستان متقابلتان في الهمود والحركة كتقابل الطين الهامد والخلق الحي في النشأة.. وبين كل متقابلين مسافة هائلة في الكنه والزمن.. وكان من شأن هذا كله أن ينقل إلى القلب البشري اليقين بتدبير الله، واليقين بلقائه. ولكن المخاطبين بالسورة يشكون في هذا ولا يستيقنون:
{ثم أنتم تمترون}..
واللمسة الثالثة تضم اللمستين الأوليين في إطار واحد؛ وتقرر ألوهية الله في الكون والحياة الإنسانية سواء:
{وهو الله في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون}..
إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله في السماوات وفي الأرض. هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء. وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما، وائتمار بأمره وحده. وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان. فلقد خلقه الله كما خلق السماوات والأرض؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض؛ وما رزقه من خصائص جعلت منه إنساناً رزقه إياه الله؛ وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله له- رضي أم كره- يعطى وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأمه: فهما يلتقيان ولكن لا يملكان أن يعطيا جنيناً وجوده! وهو يولد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة! وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه؛ ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له.
وهو يحس ويتألم، ويجوع ويعطش، ويأكل ويشرب.. وبالجملة يعيش.. وفق ناموس الله، على غير إرادة منه ولا اختيار.. شأنه في هذا شأن السماوات والأرض سواء.
والله- سبحانه- يعلم سره وجهره. ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره.
والأليق به أن يتبع- إذن- ناموس الله في حياته الاختيارية- فيما يتخذه من تصورات اعتقادية، وقيم اعتبارية، وأوضاع حيوية- لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله؛ مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله. ولكي لا يناقض بعضه بعضاً، ولا يصادم بعضه بعضاً؛ ولا يتمزق مزقاً بين ناموسين وشرعين: أحدهما إلهي والأخر بشري وما هما بسواء..
إن هذه الموجة العريضة الشاملة في مطلع السورة، إنما تخاطب القلب البشري والعقل البشري بدليل الخلق ودليل الحياة ممثلين في الآفاق وفي الأنفس.. ولكنها لا تخاطب بهما الإدراك البشري خطاباً جدلياً لاهوتياً أو فلسفياً! ولكن خطاباً موحياً موقظاً للفطرة، حيث يواجهها بحركة الخلق والإحياء؛ وحركة التدبير والهيمنة؛ في صورة التقرير لا في صورة الجدل؛ وبسلطان اليقين المستمد من تقرير الله؛ ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير فيما تراه.
ووجود السماوات والأرض، وتدبيرهما وفق هذا النظام الواضح؛ ونشأة الحياة- وحياة الإنسان في قمتها- وسيرها في هذا الخط الذي سارت فيه.. كلاهما يواجه الفطرة البشرية بالحق، ويوقع فيها اليقين بوحدانية الله.. والوحدانية هي القضية التي تستهدف السورة كلها- بل القرآن كله- تقريرها. وليست هي قضية وجود الله. فلقد كانت المشكلة دائماً في تاريخ البشرية هي مشكلة عدم معرفة الإله الحق، بصفاته الحقة؛ ولم تكن هي مشكلة عدم الإيمان بوجود إله!
ومشركو العرب الذين كانت هذه السورة تواجههم ما كانوا يجحدون الله البتة؛ بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه، وبأنه الخالق الرازق، المالك، المحيي المميت.. إلى كثير من الصفات- كما يقرر القرآن ذلك في مواجهتهم، وفي حكاية أقوالهم- ولكن انحرافهم الذي وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضى اعترافهم ذاك: من تحكيم الله- سبحانه- في أمرهم كله؛ ونفي الشركاء له في تدبير شؤون حياتهم؛ واتخاذ شريعته وحدها قانوناً، ورفض مبدأ تحكيم غير الله في أي شأن من شؤون الحياة.
هذا هو الذي وصمهم بالشرك وبالكفر؛ مع إقرارهم بوجود الله سبحانه، ووصفه بتلك الصفات، التي من مقتضاها أن يتفرد سبحانه بالحكم في شأنهم كله، بما أنه الخالق الرازق المالك، كما كانوا يعترفون.
ومواجهتهم في مطلع هذه السورة بصفات الله هذه من الخلق للكون وللإنسان، ومن تدبيره لأمر الكون وأمر الإنسان؛ ومن علمه وإحاطته بسرهم وجهرهم وعملهم وكسبهم.. إنما هو المقدمة التي يرتب عليها ضرورة إفراده سبحانه بالحاكمية والتشريع، كما أوضحنا في التعريف المجمل بخط السورة ومنهجها.
ودليل الخلق ودليل الحياة كما أنهما صالحان لمواجهة المشركين لتقرير الوحدانية، ولتقرير الحاكمية، هما كذلك صالحان لمواجهة اللوثات الجاهلية الحديثة التافهة في إنكار الله..
والحقيقة أن هناك شكاً كثيراً فيما إذا كان هؤلاء الملحدون يصدقون أنفسهم! فأغلب الظن أنها بدأت مناورة في وجه الكنيسة؛ ثم استغلها اليهود لرغبتهم في تدمير قاعدة الحياة البشرية الأساسية، كي لا يبقى على وجه الأرض من يقوم على هذه القاعدة غيرهم- كما يقولون في بروتوكولات حكماء صهيون- ومن ثم تنهار البشرية وتقع تحت سيطرتهم، بما أنهم هم وحدهم الذين سيحافظون على مصدر القوة الحقيقية الذي توفره العقيدة!
واليهود- مهما بلغ من كيدهم ومكرهم- لا يملكون أن يغلبوا الفطرة البشرية، التي تجد في قرارتها الإيمان بوجود إله- وإن كانت تضل فقط في معرفة الإله الحق بصفاته الحقة؛ كما أنها تنحرف بعدم توحيد سلطانه في حياتها، فتوصم بالشرك والكفر على هذا الأساس- ولكن بعض النفوس تفسد فطرتها، وتتعطل فيها أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية. وهذه النفوس وحدها هي التي يمكن أن يفلح معها كيد اليهود الذي يستهدف نفي وجود الله فيها. ولكن هذه النفوس المعطلة الفطرة ستظل قليلة وشاذة في مجموع البشر في كل زمان.. والملحدون الحقيقيون على ظهر الأرض اليوم لا يتجاوزون بضعة ملايين في روسيا والصين من بين مئات الملايين الذين يحكمهم الملحدون بالحديد والنار؛ على الرغم من الجهد الناصب خلال أربعين عاماً في نزع الإيمان بكل وسائل التعليم والإعلام!
إنما يفلح اليهود في حقل آخر. وهو تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر. وطرده من واقع الحياة. وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله؛ مع أن هناك أرباباً أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله! ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلاً، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله.
وهم يستهدفون الإسلام- قبل كل دين آخر- لأنهم يعرفون من تاريخهم كله، أنهم لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة. وأنهم غالبو أهله طالما أهله لا يحكمونه في حياتهم؛ مع توهمهم أنهم ما يزالون مسلمين مؤمنين بالله! فهذا التخدير بوجود الدين- وهو غير موجود في حياة الناس- ضروري لتنجح المؤامرة.. أو يأذن الله فيصحو الناس!
وأحسب- والله أعلم- أن اليهود الصهيونيين، والنصارى الصليبيين، كليهما، قد يئسوا من هذا الدين في هذه المنطقة الإسلامية الواسعة في إفريقية وآسيا وأوربا كذلك.
يئسوا من أن يحولوا الناس فيها إلى الإلحاد- عن طريق المذاهب المادية- كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى عن طريق التبشير أو الاستعمار.. ذلك أن الفطرة البشرية بذاتها تنفر من الإلحاد وترفضه حتى بين الوثنيين- فضلاً على المسلمين- وأن الديانات الأخرى لا تجرؤ على اقتحام قلب عرف الإسلام، أو حتى ورث الإسلام!
وأحسب- والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير؛ فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر.. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام؛ وتتمسح في العقيدة؛ ولا تنكر الدين جملة.. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل!
إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام- أو على الأقل تعلن احترامها للدين- بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله؛ وتقصي شريعة الله عن الحياة؛ وتحل ما حرم الله؛ وتنشر تصورات وقيماً مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية؛ وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية؛ وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج؛ بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعاً بالعمل والتوجيه.. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟ أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة؛ وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين. وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين؛ وفي دين الله؛ بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين!
وإمعاناً في الخداع والتضليل؛ وإمعاناً من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروباً مصطنعة- باردة أو ساخنة- وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة!
تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة؛ ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد؛ من تدمير القيم والأخلاق؛ وسحق العقائد والتصورات؛ وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول.
وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم.. وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين؛ في غفلة من الرقباء والعيون!
فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة؛ ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف؛ وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولوصف الكفر بأنه الإسلام؛ والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد.. إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة؛ وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقاً، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء!!!
ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين؛ ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء- من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق- بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملاً بهذه الصيحات الخافتة.. بينما الدين كله يسحق سحقاً، ويدمر من أساسه؛ وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت- الذي أمروا أن يكفروا به- هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلاً!
إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحاً بنجاح الخطة وجواز الخدعة؛ بعدما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان..
إلا أن الأمل في الله أكبر؛ والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون والله خير الماكرين. وهو الذي يقول: {وقد مكروا مكرهم، وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال. فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله، إن الله عزيز ذو انتقام} أما مواجهة دليل الخلق ودليل الحياة للوثة الإلحاد، فهي مواجهة قوية، لا يجد الملحدون إزاءها إلاّ المماحلة والمغالطة والالتواء:
إن وجود هذا الكون ابتداء، بهذا النظام الخاص، يستلزم- بمنطق الفطرة البديهي وبمنطق العقل الواعي على السواء- أن يكون وراءه خالق مدبر..
فالمسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يملك الإدراك البشري أن يعبرها، إلا بتصور إله ينشئ ويخلق ويوجد هذا الوجود.
والذين يلحدون يعمدون إلى هذه الفجوة فيريدون ملأها بالمكابرة. ويقولون: إنه لا داعي لأن نفترض أنه كان هناك عدم قبل الوجود!.. ومن هؤلاء فيلسوف عرف بأنه فيلسوف الروحية المدافع عنها في وجه المادية. وعلى هذا الأساس ربما أشاد به بعض المخدوعين من المسلمين واستأنسوا بأقواله لدينهم كأنما ليؤازروا دين الله بقول عبد من العبيد.. هذا الفيلسوف هو برجسون.. اليهودي!!!
إنه يقول: إن هذا الوجود الكوني لم يسبقه عدم! وإن فرض الوجود بعدم العدم ناشئ من طبيعة العقل البشري الذي لا يستطيع أن يتصور إلا على هذا النحو.
فإلى أي منطق يا ترى يستند برجسون إذن في إثبات أن الوجود الكوني لم يسبقه عدم؟
إلى العقل؟ لا. فإن العقل- كما يقرر- لا يمكن أن يتصور إلا وجوداً بعد عدم! إلى وحي من الله؟ إنه لا يدعي هذا. وإن كان يقول: إن حدس المتصوفة كان دائماً يجد إلهاً ولا بد أن نصدق هذا الحدس المطرد (الإله الذي يتحدث عنه برجسون ليس هو الله إنما هو الحياة!).. فأين المصدر الثالث الذي يعتمد عليه (برجسون) إذن في إثبات أن الوجود الكوني غير مسبوق بعدم؟ لا ندري!
إنه لا بد من الالتجاء إلى تصور خالق خلق هذا الكون.. لا بد من الالتجاء إلى هذا التصور لتعليل مجرد وجود الكون.. فكيف إذا كان الحال أنه لم يوجد مجرد وجود. ولكنه وجد محكوماً بنواميس لا تتخلف، محسوباً فيها كل شيء بمقاييس، قصارى العقول البشرية أن تدرك أطرافاً منها، بعد التدبر الطويل؟!
كذلك نشأة هذه الحياة. والمسافة بينها وبين المادة- أياً كان مدلول المادة ولو كان هو الإشعاع- لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبر. يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضاً بعد وجودها. والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرد الحياة.. وأصله من طين.. أي من مادة هذه الأرض وجنسها؛ ولا بد من إرادة مدبرة تمنحه الحياة، وتمنحه خصائص الإنسان عن قصد واختيار.
وكل المحاولات التي بذلها الملحدون لتعليل نشأة الحياة باءت بالفشل- عند العقل البشري ذاته- وآخر ما قرأته في هذا الباب محاولة (ديورانت) المتفلسف الأمريكي للتقريب بين نوع الحركة الذي في الذرة- وهو يسميه درجة من الحياة- ونوع الحياة المعروف في الأحياء. وذلك في جهد مستميت لملء الفجوة بين المادة الهامدة والحياة النابضة. بقصد الاستغناء عن الإله الذي ينشئ الحياة في الموات!
ولكن هذه المحاولة المستميتة لا تنفعه ولا تنفع الماديين في شيء.. ذلك أنه إن كانت الحياة صفة كامنة في المادة، ولم يكن وراء هذه المادة قوة أخرى ذات إرادة، فما الذي يجعل الحياة التي في المادة الكونية تتبدى في درجات بعضها أرقى وأعقد من بعض؟ فتتبدى في الذرة مجرد حركة آلية غير واعية. ثم تتبدى في النبات في صورة عضوية. ثم تتبدى في الأحياء المعروفة في صورة عضوية أكثر تركيباً وتعقيداً..
ما الذي جعل المادة- المتضمنة للحياة كما يقال- يأخذ بعضها من عنصر الحياة أكثر مما يأخذ البعض الأخر، بلا إرادة مدبرة؟ ما الذي جعل الحياة الكامنة في المادة، تختلف في مدارجها المترقية؟!
إننا نفهم هذا التفاوت يوم نقدر أن هناك إرادة مدبرة هي التي تصنع ذلك مختارة مريدة.
فأما حين تكون المادة (الحية ولنفرض ذلك!) هي وحدها، فإنه يستحيل على العقل البشري ذاته أن يفهم هذا التفاوت أو يعلله!
إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة!
وإذ كنا- في هذه الظلال- لا نخرج عن المنهج القرآني؛ فإننا لا نمضي أكثر من هذا في مواجهة لوثة الإلحاد ببراهين الخلق والتدبير والحياة.. فالقرآن الكريم لم يجعل قضية وجود الله قضيته. لعلم الله أن الفطرة ترفض هذه اللوثه. إنما القضية هي قضية توحيد الله؛ وتقرير سلطانه في حياة العبد؛ وهي القضية التي تتوخاها السورة في هذه الموجة التي استعرضناها.


هذه هي الموجة التالية في افتتاح السورة؛ بعد الموجة الأولى ذات اللمسات العريضة.. الموجة التي غمرت الكون كله بحقيقة الوجود الإلهي متجلية في خلق السماوات والأرض، منشئة للظلمات والنور؛ ثم في خلق الإنسان من مادة هذه الأرض؛ وتقدير أجله الذي ينتهي بالموت؛ والاحتفاظ بسر الأجل الآخر المضروب للبعث؛ والإحاطة بسر الناس وجهرهم، وما يكسبون في السر والجهر..
هذا الوجود الإلهي الذي يتجلى في الآفاق والأنفس، هو وجود متفرد متوحد؛ ليس مثله وجود؛ لأنه ما من خالق غير الله؛ كما أنه وجود غامر باهر قاهر يبدو التكذيب في ظله والإعراض عن هذه الآيات الهائلة، منكراً قبيحاً، لا سند له، ولا عذر لصاحبه..
ومن ثم يعرض السياق موقف المشركين الذين يعارضون الدعوة الإسلامية في ظل هذا الوجود الغامر الباهر القاهر؛ فيبدو هذا الموقف منكراً قبيحاً، حتى في حس أصحابه الذين يواجههم هذا القرآن بهذه الحقيقة! ويكسب القرآن المعركة في الجولة الأولى. يكسبها في أعماق فطرة الناس، على الرغم من مكابرتهم ومن عنادهم الظاهرين!
وهو يعرض في هذه الموجة صورة العناد والمكابرة؛ ويواجهها بالتهديد مرة؛ وبتوجيه القلوب إلى مصارع المكذبين من قبل مرة؛ ويحشد فيها عدة مؤثرات وموحيات. بعد الهزة الأولى التي مضت بها تلك الموجة العريضة:
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين. فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون. ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}..
إنهم يتخذون موقف الإعراض عناداً واصراراً. فليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية إلى الإيمان، ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية، ولا البراهين الناطقة بما وراء الدعوة والداعية من ألوهية حقة، هي التي يدعون إلى الإيمان بها والاستسلام لها.. ليس هذا هو الذي ينقصهم، إنما تنقصهم الرغبة في الاستجابة، ويمسك بهم العناد والإصرار، ويقعد بهم الإعراض عن النظر والتدبر:
{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين}..
وحين يكون الأمر كذلك. حين يكون الإعراض متعمدا ومقصوداً- مع توافر الأدلة، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق- فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد:
{فقد كذبوا بالحق لما جاءهم. فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون}..
إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض، وجاعل الظلمات والنور، وخالق الإنسان من طين، والإله في السماوات وفي الأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون.
إنه الحق وقد كذبوا به، مصرين على التكذيب، معرضين عن الآيات، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان.. فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون!
ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده.. يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون! حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول!
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم- وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث- فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب.
{ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم. فأهلكناهم بذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}..
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة. وقد مكنهم الله في الأرض، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة؛ وأرسل المطر عليهم متتابعاً ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق.. ثم ماذا؟ ثم عصوا ربهم، فأخذهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم جيلاً آخر، ورث الأرض من بعدهم؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض! فقد ورثها قوم آخرون! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر! ما أهونهم على الله؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضاً! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء؛ إنما عمرها جيل آخر؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء!
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله، ليبلوهم فيه: أيقومون عليه بعهد الله وشرطه، من العبودية له وحده، والتلقي منه وحده- بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه- أم يجعلون من أنفسهم طواغيت، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف.
إنها حقيقة ينساها البشر- إلا من عصم الله- وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف؛ ويمضون على غير سنة الله؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويداً رويداً وهم ينزلقون ولا يشعرون.. حتى يستوفي الكتاب أجله؛ ويحق وعد الله.. ثم تختلف أشكال النهاية: مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال- بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام- ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام- ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض؛ فيعذب بعضهم بعضاً، ويدمر بعضهم بعضاً، ويؤذي بعضهم بعضاً، ولا يعود بعضهم يأمن بعضاً؛ فتضعف شوكتهم في النهاية؛ ويسلط الله عليهم عباداً له- طائعين أو عصاة- يخضدون شوكتهم، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.
وهكذا تمضي دورة السنة.. السعيد من وعى أنها السنة، ومن وعى أنه الابتلاء؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه. والشقي من غفل عن هذه الحقيقة، وظن أنه أوتيها بعلمه، أو أوتيها بحيلته، أو أوتيها جزافاً بلا تدبير!
وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكناً له في الأرض، غير مأخوذ من الله.. ولكن الناس إنما يستعجلون.. إنهم يرون أول الطريق أو وسطه؛ ولا يرون نهاية الطريق.. ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث.. والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون- في حياتهم الفردية القصيرة- نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق!
إن هذا النص في القرآن: {فأهلكناهم بذنوبهم}.. وما يماثله، وهو يتكرر كثيراً في القرآن الكريم.. إنما يقرر حقيقة، ويقرر سنة، ويقرر طرفاً من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ..
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية- ولو لم يرها فرد في عمره القصير، أو جيل في أجله المحدود- ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب.. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ: فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة- كما كان يحدث في التاريخ القديم- وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم- مع الزمن- وهي توغل في متاهة الذنوب!
وأمامنا في التاريخ القريب- نسبياً- الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي، والدعارة الفاشية، واتخاذ المرأة فتنة وزينة، والترف والرخاوة، والتلهي بالنعيم.. أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان- وقد أصبحوا أحاديث- وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة، كفرنسا وانجلترا كذلك- على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض.
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفاً باتاً من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها.. ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلاّ على أساس القاعدة الاعتقادية.
والتفسير الإسلامي- بشموله وجديته وصدقه وواقعيته- لا يغفل أثر العناصر المادية- التي يجعلها التفسير المادي هي كل شيء- ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلاّ أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود.. يبرز قدر الله من وراء كل شيء؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي.. ولا يغفل عاملاً واحداً من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة..
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد، التي ينبعث منها ذلك الإعراض؛ فيرسم نموذجاً عجيباً من النفوس البشرية.. ولكنه نموذج مع ذلك مكرور، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل.. نموذج النفس المكابرة، التي يخرق الحق عينها ولا تراه! والتي تنكر ما لا يُنكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره! على الأقل من باب الحياء!.. والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصاً في كلمات قلائل على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير:
{ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين}..
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن أيات الله، أن البرهان على صدقها ضعيف، أو غامض، أو تختلف فيه العقول. إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق! وهو الإصرار مبدئياً على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلاً! ولو أن الله- سبحانه- نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم- لا سماعاً عن غيرهم، ولا مجرد رؤية بعيونهم- ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه، ولقالوا جازمين مؤكدين:
{إن هذا الا سحر مبين}.
وهي صورة صفيقة، منكرة، تثير الاشمئزاز، وتستعدي من يراها عليها! صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها! حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل!
وتصويرها على هذا النحو- وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة- يؤدي غرضين أو عدة أغراض: إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة، ليرى نفسه في هذه المرآة، ويخجل منها!
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين؛ ويثبت قلوبهم على الحق، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء.
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق.
وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين.
بعد ذلك يحكي نموذجاً من اقتراحات المشركين، التي يمليها التمحل والعناد، كما يمليها الجهل وسوء التصور.. ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله- سبحانه- على الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً يصاحبه في تبليغ الدعوة؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله.. ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة، وبسنة الله في إرسالهم، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون:
{وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم ما يلبسون}..
وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم- كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم- والرد القرآني عليه في هذا الموضع.. هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان:
الحقيقة الأولى: أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله؛ ولكنهم كانوا يريدون برهاناً على ان الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من عنده؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم منزل من عند الله حقاً. ويقترحون برهاناً معيناً: هو أن ينزل الله عليه ملكاً يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه.. ولم يكن هذا إلا اقتراحاً من اقتراحات كثيرة من مثله، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى. وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء، وهو يتضمن هذا الاقتراح، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً. وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً. أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه. قل: سبحان ربي! هل كنت إلا بشراً رسولاً؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً؟ قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} (الإسراء: 89-95).
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة.. وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه جيداً بالخبرة الطويلة؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف؛ وقد هاجر صلى الله عليه وسلم وترك ابن عمه علياً رضي الله عنه يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقناً كأمانته؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا- حين أمره ربه بذلك- وسألهم: إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق.
فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان، ولقد كانوا يعلمون: إنه لصادق.. وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه: أنهم لا يكذبونه {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون. فإنهم لا يكذبونك. ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} فهي الرغبة في الإنكار والإعراض؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق. وليس أنهم يشكون في صدقه صلى الله عليه وسلم!
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون. فإن هذا القرآن شاهد بذاته، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير، على أنه من عند الله.. وهم لم يكونوا يجحدون الله.. وهم- على وجه التأكيد- كانوا يحسون ذلك ويعرفونه.. كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى- وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة. وكل من مارس فن القول يدرك إدراكاً واضحاً أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقادي والمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية.. كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية، والطرائق البشرية في الأداء النفسي والتعبيري أيضاً.. والعرب لم يكن يخفى عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم. وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله..
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات؛ وأسلوباً من أساليب التعنت؛ وخطة للمماحكة والمعاندة؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين}!
والحقيقة الثانية: أن العرب كانوا يعرفون الملائكة؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكاً يدعو معه ويصدقه.. ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق؛ وفي نوع علاقته بربه؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها.. وقد حكى القرآن الكريم كثيراً من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق.
وكان الإسلام- من هذا الجانب- منهجاً لتقويم العقل والشعور، كما كان منهجاً لتقويم القلب والضمير، ومنهجاً لتقويم الأوضاع والأحوال سواء..
وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله! سبحانه وتعالى عما يصفون! وأنهم- من ثم- لهم شفاعة عند الله لا ترد! والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزاً للملائكة! كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكاً ليصدقه في دعواه..
وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى. كالذي جاء في سورة النجم:
{أفرأيتم اللات والعزى؟ ومناة الثالثة الأخرى؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزى! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى. أم للإنسان ما تمنى؟ فلله الآخرة والأولى. وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى. وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة:
{وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون}..
وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله.. إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكاً، ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة- حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم- أن ينزلوا للتدمير عليهم، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار. ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكاً، لقضي الأمر، وتم التدمير، ولم يُنظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين؟!.. هكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة.. وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل!
والجانب الثاني من التعريف بهذا الخلق من عباد الله تتضمنه الآية الثانية:
{ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم ما يلبسون}..
إنهم يقترحون أن ينزل الله- سبحانه- ملكاً على رسوله صلى الله عليه وسلم يصدقه في دعواه.. ولكن الملائكة خلق آخر غير الخلق الإنساني.
خلق ذو طبيعة خاصة يعلمها الله. وهم- كما يقول الله عنهم، ونحن لا علم لنا بهم إلا مما يقوله عنهم الذي خلقهم- لا يستطيعون أن يمشوا في الأرض بهيئتهم التي خلقهم الله عليها؛ لأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب؛ ولكن لهم- مع ذلك- من الخصائص ما يجعلهم يتخذون هيئة البشر حين يؤدون وظيفة من وظائفهم في حياة البشر؛ كتبليغ الرسالة؛ أو التدمير على من يريد الله أن يدمر عليهم من المكذبين؛ أو تثبيت المؤمنين، أو قتال أعدائهم وقتلهم.. إلى آخر الوظائف التي يقص القرآن الكريم أنهم يكلفون بها من ربهم، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فلو شاء الله أن يرسل ملكاً يصدق رسوله، لتبدى للناس في صورة رجل- لا في صورته الملائكية- وعندئذ يلتبس عليهم الأمر مرة أخرى! وإذا كانوا يلبسون على أنفسهم الحقيقة ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنا محمد الذي تعرفونه أرسلني الله إليكم لأنذركم وأبشركم.. فكيف يكون اللبس إذا جاءهم ملك- في صورة رجل لا يعرفونه- يقول لهم: أنا ملك أرسلني الله لأصدق رسوله.. بينما هم يرونه رجلاً كأي منهم؟! إنهم يلبسون الحقيقة البسيطة. فلو أرسل الله ملكاً لجعله رجلاً وللبس عليهم الحقيقة التي يلبسونها؛ ولما اهتدوا قط إلى يقين!
وهكذا يكشف الله- سبحانه- جهلهم بطبيعة خلائقه، كما كشف لهم جهلهم في معرفة سنته.. وذلك بالإضافة إلى كشف تعنتهم وعنادهم بلا مبرر، وبلا معرفة، وبلا دليل!
والحقيقة الثالثة التي يثيرها النص القرآني في الفكر: هي طبيعة التصور الإسلامي ومقومات هذا التصور- ومن بينها تلك العوالم الظاهرة والمغيبة التي علم الإسلامُ المسلمَ أن يدركها أولاً، وأن يتعامل معها أخيراً- ومن بين تلك العوالم المغيبة عالم الملائكة.. وقد جعل الإسلام الإيمان بها مقوماً من مقومات الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به.. الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره..
وقد سبق أن ذكرنا في هذه الظلال ونحن نتحدث عن مطلع سورة البقرة: ما ملخصه أن الإيمان بالغيب نقلة في حياة الإنسان ضخمة؛ لأن خروجه من دائرة المحسوس الضيقة إلى إدراك أن هناك غيباً مجهولاً يمكن وجوده ويمكن تصوره، هو- بلا شك- نقلة من دائرة الحس الحيواني إلى مجال الإدراك الإنساني. وأن إغلاق هذا المجال دون الإدراك الإنساني نكسة به إلى الوراء؛ وهو ما تحاوله المذاهب المادية الحسية؛ وتدعوه تقدمية! وسنتحدث- إن شاء الله- بشيء من التفصيل عن الغيب عندما نواجه في هذه السورة قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فنقصر الحديث هنا عن الملائكة، من عالم الغيب.
لقد تضمن التصور الإسلامي عن عالم الغيب، أن هناك خلقاً من عباد الله اسمهم الملائكة. وأخبرنا القرآن الكريم عن قدر من صفاتهم، يكفي لهذا التصور ويكفي للتعامل معهم في حدوده.
فهم خلق من خلق الله، يدين لله بالعبودية، وبالطاعة المطلقة؛ وهم قريبون من الله- لا ندري كيف ولا ندري نوع القرب على وجه التحديد-: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً. سبحانه! بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وهم يحملون عرش الرحمن، ويحفون به يوم القيامة كذلك- لا ندري كيف فليس لنا من علم إلا بقدر ما كشف الله لنا في هذا الغيب-: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به...} {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق وقيل: الحمد لله رب العالمين} وهم خزنة الجنة وخزنة النار، يستقبلون أهل الجنة بالسلام والدعاء، ويستقبلون أهل النار بالتأنيب والوعيد: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: بلى! ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين: قيل: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين} {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} وهم يتعاملون مع أهل الأرض في صور شتى:
فهم يقومون عليهم حفظة بأمر الله؛ يتابعونهم ويسجلون عليهم كل ما يصدر عنهم؛ ويتوفونهم إذا جاء أجلهم: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفطونه.. من أمر الله..} {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وهم يبلغون الوحي إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.. وقد أعلمنا الله- سبحانه- أن جبريل عليه السلام هو الذي يقوم منهم بهذه الوظيفة: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده: أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله}. ووصفه- سبحانه بأنه ذو مرة (أي قوة) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه على هيئته الملائكية مرتين اثنتين، بينما جاءه في صور شتى في مرات الوحي التالية: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. إذ يغشى السدرة ما يغشى. ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى...}
وهم يتنزلون على المؤمنين بالتثبيت والمدد والتأييد في معركتهم الكبرى مع الباطل والطاغوت: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} {إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم..} {إذ يوحي ربك إلى الملائكة: أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} وهم مشغولون بأمر المؤمنين، يسبحون ربهم، ويستغفرون للذين آمنوا من ذنوبهم، ويدعون ربهم لهم دعاء المحب المشفق المشغول بشأن من يحب: {الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا، ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته، وذلك هو الفوز العظيم} وهم كذلك يبشرون المؤمنين بالجنة عند قبض أرواحهم، ويستقبلونهم بالبشرى في الآخرة ويسلمون عليهم في الجنة: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون: سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} {.. جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار} وهم يستقبلون الكافرين في جهنم بالتأنيب والوعيد- كما سبق- ويقاتلونهم في معارك الحق كذلك. وكذلك هم يستلون أرواحهم في تعذيب وتأنيب ومهانة: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم: أخرجوا أنفسكم، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم!} ولقد كان لهم شأن مع البشر منذ نشأة أبيهم آدم، كما أن هذه الصلة امتدت في طول الحياة وعرضها حتى مجال الحياة الباقية على النحو الذي أشرنا إليه في المقتطفات القرآنية السابقة. وشأن الملائكة مع النشأة الإنسانية يرد في مواضع شتى، كالذي جاء في سورة البقرة: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم: إني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين..}
فهذا المجال الفسيح الذي تتصل فيه حياة البشر بهذا الملأ الأعلى، هو فسحة في التصور، وفسحة في إدراك حقائق هذا الوجود، وفسحة في الشعور، وفسحة في الحركة النفسية والفكرية، يتيحها التصور الإسلامي للمسلم؛ والقرآن يعرض عليه هذا المجال الفسيح، وعالم الغيب المتصل بما هو فيه من عالم الشهود.
والذين يريدون أن يغلقوا على الإنسان هذا المجال.. ومجال عالم الغيب كله.. إنما يريدون به أقبح الشر.. يريدون أن يغلقوا عالمه على مدى الحس القريب المحدود؛ ويريدون بذلك أن يزجوا به في عالم البهائم؛ وقد كرمه الله بقوة التصور؛ التي يملك بها أن يدرك ما لا تدركه البهائم؛ وأن يعيش في بحبوحة من المعرفة، وبحبوحة من الشعور! وأن ينطلق بعقله وقلبه إلى مثل هذا العالم؛ وأن يتطهر وهو يرف بكيانه كله في مثل هذا النور!
والعرب في جاهليتهم- على كل ما في هذه الجاهلية من خطأ في التصور- كانوا (من هذا الجانب) أرقى من أهل الجاهلية (العلمية!) الحديثة؛ الذين يسخرون من الغيب كله! ويعدون الإيمان بمثل هذه العوالم الغيبية سذاجة غيرعلمية! ويضعون الغيبية في كفة، والعلمية في الكفة الأخرى! وسنناقش عند مواجهة قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} هذه الدعوى التي لا سند لها من العلم، كما أنه لا سند لها من الدين. أما هنا فنكتفي بكلمة مختصرة عن شأن الملائكة.
ونسأل: ماذا عند أدعياء العقلية العلمية، من علمهم ذاته، يحتم عليهم نفي هذا الخلق المسمى بالملائكة، وإبعاده عن دائرة التصور والتصديق؟ ماذا لديهم من علم يوجب عليهم ذلك؟
إن علمهم لا يملك أن ينفي وجود حياة من نوع آخر غير الحياة المعروفة في الأرض في أجرام أخرى، يختلف تركيب جوها وتختلف طبيعتها وظروفها عن جو الأرض وظروفها.. فلماذا يجزمون بنفي هذه العوالم، وهم لا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجودها؟
إننا لا نحاكمهم إلى عقيدتنا، ولا إلى قول الله سبحانه! إنما نحاكمهم إلى علمهم الذي يتخذونه إلهاً.. فلا نجد إلا أن المكابرة وحدها- من غير أي دليل من هذا العلم- هي التي تقودهم إلى هذا الإنكار غير العلمي! ألمجرد أن هذه العوالم غيب؟ لقد نرى حين نناقش هذه القضية أن الغيب الذي ينكرونه هو الحقيقة الوحيدة التي يجزم هذا العلم اليوم بوجودها؛ حتى في عالم الشهادة الذي تلمسه الأيدي وتراه العيون.
وتنتهي هذه الموجة بعرض ما وقع للمستهزئين بالرسل. ودعوة المكذبين إلى تدبر مصارع أسلافهم، والسير في الأرض لرؤية هذه المصارع؛ الناطقة بسنة الله في المستهزئين المكذبين:
{ولقد استهزئ برسل من قبلك، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون. قل: سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين}..
إن هذه اللفتة- بعد ذكر إعراضهم عناداً وتعنتاً؛ وبعد بيان ما في اقتراحاتهم من عنت وجهالة؛ وما في عدم الاستجابة لهذه المقترحات من رحمة من الله وحلم- لترمي إلى غرضين ظاهرين:
الأول: تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسرية عنه، مما يلقاه من عناد المعرضين، وعنت المكذبين؛ وتطمين قلبه صلى الله عليه وسلم إلى سنة الله سبحانه في أخذ المكذبين المستهزئين بالرسل؛ وتأسيته كذلك بأن هذا الإعراض والتكذيب ليس بدعاً في تاريخ الدعوة إلى الحق. فقد لقي مثله الرسل قبله؛ وقد لقي المستهزئون جزاءهم الحق وحاق بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب، ومن غلبة الحق على الباطل في نهاية المطاف..
والثاني: لمس قلوب المكذبين المستهزئين من العرب بمصارع أسلافهم من المكذبين المستهزئين: وتذكيرهم بهذه المصارع التي تنتظرهم إن هم لجوا في الاستهزاء والسخرية والتكذيب. وقد أخذ الله- من قبلهم- قروناً كانت أشد منهم قوة وتمكيناً في الأرض؛ وأكثر منهم ثراء ورخاء، كما قال لهم في مطلع هذه الموجة؛ التي ترج القلوب رجاً بهذه اللفتات الواقعية المخيفة.
ومما يستدعي الانتباه ذلك التوجيه القرآني:
{قل: سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين}..
والسير في الأرض للاستطلاع والتدبر والاعتبار؛ ولمعرفة سنن الله مرتسمة في الأحداث، والوقائع؛ مسجلة في الآثار الشاخصة، وفي التاريخ المروي في الأحاديث المتداولة حول هذه الآثار في أرضها وقومها.. السير على هذا النحو، لمثل هذا الهدف، وبمثل هذا الوعي.. أمور كلها كانت جديدة على العرب؛ تصور مدى النقلة التي كان المنهج الإسلامي الرباني ينقلهم إليها من جاهليتهم إلى هذا المستوى من الوعي والفكر والنظر والمعرفة.
لقد كانوا يسيرون في الأرض، ويتنقلون في أرجائها للتجارة والعيش، وما يتعلق بالعيش من صيد ورعي.. أما أن يسيروا وفق منهج معرفي تربوي.. فهذا كان جديداً عليهم. وكان هذا المنهج الجديد يأخذهم به؛ وهو يأخذ بأيديهم من سفح الجاهلية، في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة التي بلغوا إليها في النهاية.
ولقد كان تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذة التي كان القرآن يوجه إليها العرب؛ ووفق سنن مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها- بإذن الله- ويستطيع الناس ملاحظتها؛ وبناء تصوراتهم للمقدمات والنتائج عليها؛ ومعرفة مراحلها وأطوارها.
كان هذا المنهج برمته في تفسير التاريخ شيئاً جديداً على العقل البشري كله في ذلك الزمان. إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدون من الأخبار، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس؛ لا يربط بينها منهج تحليلي أو تكويني يحدد الترابط بين الأحداث، كما يحدد الترابط بين المقدمات والنتائج، وبين المراحل والأطوار.. فجاء المنهج القرآني ينقل البشرية إلى هذا الأفق؛ ويشرع لهم منهج النظر في أحداث التاريخ الإنساني. وهذا المنهج ليس مرحلة في طرائق الفكر والمعرفة. إنما هو المنهج.. هو الذي يملك وحده إعطاء التفسير الصحيح للتاريخ الإنساني.
والذين يأخذهم الدهش والعجب للنقلة الهائلة التي انتقل إليها العرب في خلال ربع قرن من الزمان على عهد الرسالة المحمدية، وهي فترة لا تكفي إطلاقاً لحدوث تطور فجائي في الأوضاع الاقتصادية، سيرتفع عنهم الدهش ويزول العجب، لو أنهم حولوا انتباههم من البحث في العوامل الاقتصادية؛ ليبحثوا عن السر في هذا المنهج الرباني الجديد، الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله العليم الخبير.. ففي هذا المنهج تكمن المعجزة، وفي هذا المنهج يكمن السر الذي يبحثون عنه طويلاً عند الإله الزائف الذي أقامته المادية حديثاً.. إله الاقتصاد..
وإلا فأين هو التحول الاقتصادي المفاجئ في الجزيرة العربية؛ الذي ينشئ من التصورات الاعتقادية ونظام الحكم، ومناهج الفكر، وقيم الأخلاق، وآماد المعرفة، وأوضاع المجتمع، كل هذا الذي نشأ في ربع قرن من الزمان؟!
إن هذه اللفتة:
{قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين}.
إلى جانب اللفتة التي جاءت في صدر هذه الموجة من قوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}..
إلى جانب أمثالها في هذه السورة وفي القرآن كله لتؤلف جانباً من منهج جديد جدة كاملة على الفكر البشري. وهو منهج باق. ومنهج كذلك فريد..


هذه الموجة الجديدة ذات المد العالي والإيقاع الرهيب، تجيء في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ وما ختم به هذا الحديث وما تخلله من التهديد المخيف؛ مع توجيه الأنظار والقلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين المستهزئين.. كما أنها تجيء بعد موجة الافتتاح السابقة للحديث عن المكذبين؛ والتي عرضت حقيقة الألوهية في المجال الكوني العريض؛ وفي المجال الإنساني العميق. وهي كذلك تعرض حقيقة الألوهية في مجالات أخرى، بإيقاعات جديدة؛ ومع مؤثرات كذلك جديدة.. فيقع الحديث عن التكذيب بين موجة الافتتاح وهذه الموجة؛ ويبدو أمره في غاية النكارة وفي غاية البشاعة!
ولقد عرضت الموجة الأولى حقيقة الألوهية ممثلة في خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلق الإنسان من طين، وقضاء الأجل الأول لعمره، وتسمية الأجل الثاني لبعثه. مقررة شمول ألوهية الله للسماوات وللأرض، وإحاطة علمه بسر الناس وجهرهم وما يكسبونه في السر والجهر.. كل أولئك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي. ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق في الحياة الإنسانية. من إسلامها بجملتها لله وحده، لا تعدل به أحداً، ولا تمتري في هذه الوحدانية. ومن إقرارها بشمول الألوهية لشئون الكون ولشئون الحياة الإنسانية في السر والجهر. ومن ترتيب النتائج الطبيعية لهذه الحقائق في الاستسلام لحاكمية الله وحده في شؤون الحياة الأرضية كالاستسلام لهذه الحاكمية في الشؤون الكونية..
فأما هذه الموجة الجديدة فتستهدف كذلك إبراز حقيقة الألوهية، ممثلة في الملك والفاعلية، وفي الرزق والكفالة؛ وفي القدرة والقهر؛ وفي النفع والضر.. كل ذلك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي.. ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق من توحيد الولاية والتوجه؛ وتوحيد الاستسلام والعبودية.. واعتبار الولاية والتوجه مظهر الاستسلام والعبودية. فإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنكر أن يتخذ غير الله ولياً؛ بين أن هذا الاستنكار قائم أولاً على أن الله يطعم ولا يطعم؛ وقائم ثانياً على أن تولي غير الله نقض لما أُمر به من الإسلام وعدم الشرك أيضاً..
ويصاحب عرض حقيقة الألوهية، في هذه الصورة ولهذا الغرض، جملة مؤثرات قوية تخلخل القلوب. تبدأ بعرض حقيقة الملكية لكل شيء. وحقيقة أن الله هو الذي يطعم ولا يطعم. وعرض العذاب الرعيب الذي يعد مجرد صرفه رحمة من الله وفوزاً عظيماً. وعرض القدرة على الضر والخير. وعرض الاستعلاء والقهر. وعرض الحكمة والخبرة.. ثم الإيقاع الرهيب المزلزل، المتمثل في الأمر العلوي الهائل: قل. قل. قل:
فإذا تم هذا العرض بكل مؤثراته العميقة، جاء الختام بالإيقاع العالي المجلجل.. إيقاع الإشهاد على التوحيد، وإنكار الشرك، والمفاصلة الحاسمة؛ مصحوباً كذلك بالأمر العلوي في كل فاصلة: {قل: أي شيء أكبر شهادة؟}.
{قل: الله}.. {قل: لا أشهد}.. {قل: إنما هو إله واحد}.. مما يضفي على الجو كله رهبة غامرة؛ ويضفي على الأمر كله طابع جد مرهوب!
{قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله، كتب على نفسه الرحمة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. وله ما سكن في الليل والنهار، وهو السميع العليم}..
إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير، ثم المفاصلة.. ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه المواجهة. مواجهة المشركين- الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم- مواجهتهم بالسؤال عن الملكية- بعد الخلق- لكل ما في السماوات والأرض، مسقصياً بهذا السؤال حدود الملكية في المكان:
{ما في السماوات والأرض}.. مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادولن فيها؛ والتي حكى القرآن في مواضع إقرارهم الكامل بها:
{قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله}..
ولقد كان العرب في جاهليتهم- على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة- أرقى- في هذا الجانب- من الجاهلية العلمية الحديثة، التي لا تعرف هذه الحقيقة، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة! كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض. ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه.. وبهذا اعتبروا مشركين، وسميت حياتهم بالجاهلية! فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه؛ ويزاولونها هم بأنفسهم؟! بماذا يوصفون وبماذا توصف حياتهم؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك.. فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه.. أياً كانت دعواهم في الإسلام وأياً كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد!
ونعود إلى الآية. لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله- سبحانه- لما في السماوات وما في الأرض، أنه- سبحانه:
{كتب على نفسه الرحمة}..
فهو سبحانه المالك، لا ينازعه منازع، ولكنه- فضلاً منه ومنة- كتب على نفسه الرحمة. كتبها بإرادته ومشيئته؛ لا يوجبها عليه موجب؛ ولا يقترحها عليه مقترح؛ ولا يقتضيها منه مقتض- إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة- وهي- الرحمة- قاعدة قضائه في خلقه، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة.. والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقوّمات التصور الإسلامي، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء. فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
والرحمة في هذا كله ظاهرة..
على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال. فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة.. إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار!
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها- وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي- ولكننا سنحاول أن نقف قليلاً أمام هذا النص القرآني العجيب:
{كتب على نفسه الرحمة}.
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي: {كتب ربكم على نفسه الرحمة}..
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه.. تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده.. تفضله- سبحانه- بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة.. مكتوبة عليه.. كتبها هو على نفسه؛ وجعلها عهداً منه لعباده.. بمحض إرادته ومطلق مشيئته.. وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة..
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه- سبحانه- على نفسه من رحمته. فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر، لا يقل عن ذلك التفضل الأول! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟ من هم؟ إلا أنه الفضل العميم، الفائض من خلق الله الكريم؟!
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش؛ كما يدعه في أنس وفي روْح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه!
ومثل هذه الحقائق، وما تثيره في القلب من مشاعر؛ ليس موكولاً إلى التعبير البشري ليبلغ شيئاً في تصويره؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه، لا لتعريفه!
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكوّن جانباً أساسياً من تصور حقيقة الألوهية، وعلاقة العباد بها.. وهو تصوّر جميل مطمئن ودود لطيف. يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله!- على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة- فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه. والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه، كما يروعه بجلال إيقاعه..
ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً؛ وتسعهم جميعاً؛ وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم.
وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة:
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته. في نشأتهم من حيث لا يعلمون. وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.
وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته.. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير، ولم يصغ للتحذير. وهو على الله هين. ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
وتتجلى في تجاوز الله- سبحانه- عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء. ومحو السيئة بالحسنة.. وكله من فضل الله. فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيّ عنها، هو أجدر وأولى. وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئاً! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن؛ فيتصل به؛ ويعرفه؛ ويطمئن إليه- سبحانه- ويأمن في كنفه؛ ويستروح في ظله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها، فضلاً على وصفها والتعبير عنها.
فلننظر كيف مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقّربها للقلوب شيئاً ما:
أخرج الشيخان- بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما قضى الله الخلق- وعند مسلم: لما خلق الله الخلق- كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي.. وعند البخاري في رواية أخرى: إن رحمتي غلبت غضبي».
«وأخرج الشيخان بإسناده عنه رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل الله الرحمة مائة جزء. فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
وأخرج مسلم- بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة».
وله في أخرى: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض. فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة».
وهذا التمثيل النبوي الموحي، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى.. ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة، والضعف والمرض؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض- ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب- ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه.. فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئاً ما!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي. فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي، فأخذته، فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه. قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها». أخرجه الشيخان.
وكيف لا. وهذه المرأة إنما ترحم ولدها، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟
ومن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية، بهذا الأسلوب الموحي، كان ينتقل بهم خطوة أخرى؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعاً؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل.
عن ابن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الله تعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس».. أخرجه الشيخان والترمذي.
وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي».
وعن أبي هريرة كذلك. قال: «قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي- رضي الله عنهما- وعنده الأقرع بن حابس. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم». أخرجه الشيخان.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقف في تعليمه لأصحابه- رضوان الله عليهم- عند حد الرحمة بالناس. وقد علم أن رحمة ربه وسعت كل شيء. وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقاً بخلق الله سبحانه، وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب. فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر». أخرجه مالك والشيخان.
وفي أخرى: «إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع (أي أخرج) لسانه من العطش فنزعت له موقها (أي خفها) فغفر لها به».
وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. فرأينا حمرة (طائر) معها فرخان لها فأخذناهما. فجاءت الحمرة تعرّش (أو تفرش)- (أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض) فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار».. أخرجه أبو داود..
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قرصت نملة نبياً من الأنبياء. فأمر بقرية النمل فحرقت. فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟».. أخرجه الشيخان.
وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هدى القرآن. ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة.. أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشئ في حسه وفي حياته وفي خلقه آثاراً عميقة؛ يصعب كذلك تقصيها؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية، إلى قضية مستقلة!
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه- حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار- فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها!
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، وبالهدوء والراحة.. فهو في كنف ودود، يستروح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود!
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّئ على المعصية- كما يتوهم البعض- إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم. والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة.. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيراً قوياً في خلق المؤمن، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله- سبحانه- وهو يرى نفسه مغموراً برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه- فيعلمه ذلك كله كيف يرحم، وكيف يعفو، وكيف يغفر.. كما رأينا في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ مستمداً تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة..
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة: أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة:
{قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله. كتب على نفسه الرحمة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه..}..
فمن هذه الرحمة المكتوبة، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه.. ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله- سبحانه- بعباده من الناس؛ فقد خلقهم لأمر؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية، ولم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سدى.
ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة- فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته- فيعطيهم جزاء كدحهم إليه، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا. فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.. وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها.. كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها، والحسنة بعشرة أمثالها، والإضعاف لمن يشاء، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء.. كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضاً.
ولقد كان العرب في جاهليتهم- قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم- يكذبون بيوم القيامة- شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية العلمية الحديثة!!! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات، لمواجهة ذلك التكذيب:
{ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}..
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا.. وهؤلاء لن يخسروا شيئاً ويكسبوا شيئاً.. هؤلاء خسروا كل شيء.. فقد خسروا أنفسهم كلها، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئاً. أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب؟ ولمن يكسب؟!
{الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}..
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن!.. هو تعبير دقيق عن حالة واقعة.. إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين- مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله- هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم! لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة؛ أو محجوبة مغلفة. فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها، ومن ثم فهم لا يؤمنون.. إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون.. وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم.. وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم. وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم!
بعد ذلك يمضي السياق يستقصي الخلائق في الزمان- كما استقصاها في الآية السابقة في المكان- ليقرر تفرد الله- سبحانه- بملكيتها؛ وعلمه- سبحانه- وسمعه المحيطين بها:
{وله ما سكن في الليل والنهار، وهو السميع العليم}..
وأقرب تأويل لقوله: {ما سكن} أنه من السكنى- كما ذكر الزمخشري في الكشاف- وهو بهذا يعني كل ما اتخذ الليل والنهار سكناً؛ فهو يعني جميع الخلائق؛ ويقرر ملكيتها لله وحده. كما قرر من قبل ملكية الخلائق كلها له سبحانه.
غير أنه في الآية الأولى: {قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله} قد استقصى الخلائق من ناحية المكان. وفي هذه الآية الثانية: {وله ما سكن في الليل والنهار}.. قد استقصى الخلائق من ناحية الزمان.. ومثله معروف في التعبير القرآني حين يتجه إلى الاستقصاء.. وهذا هو التأويل الذي نطمئن إليه في الآيتين من بين شتى التأويلات.
والتعقيب بصفتي السمع والعلم يفيد الإحاطة بهذه الخلائق، وبكل ما يقال عنها كذلك من مقولات المشركين الذي يواجههم هذا النص.. ولقد كانوا مع إقرارهم بوحدانية الخالق المالك، يجعلون لأربابهم المزعومة جزءاً من الثمار ومن الأنعام ومن الأولاد- كما سيجيء في نهاية السورة- فهو يأخذ عليهم الإقرار هنا بملكية كل شيء؛ ليواجههم بها فيما يجعلونه للشركاء بغير إذن من الله. كما أنه يمهد بتقرير هذه الملكية الخالصة لما سيلي في هذه الفقرة من ولاية لله وحده، بما أنه هو المالك المتفرد بملكية كل شيء. في كل مكان وفي كل زمان، الذي يحيط سمعه وعلمه بكل شيء، وبكل ما يقال عن كل شيء كذلك!
والآن، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق، وأن الله وحده هو المالك.. يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله، والعبودية لغير الله، والولاء لغير الله. ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام. وتذكر من صفات الله سبحانه: أنه فاطر السماوات والأرض، وأنه الرازق المطعم، وأنه الضار النافع، وأنه القادر القاهر. كما يذكر العذاب المخوف المرهوب.. فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة، في إيقاع مدوٍّ عميق:
{قل: أغير الله أتخذ ولياً، فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
إن هذه القضية.. قضية اتخاذ الله وحده ولياً. بكل معاني كلمة (الولي). أي اتخاذه وحده رباً ومولى معبوداً يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده؛ ويدين له بالعبادة فيقدم له شعائرها وحده. واتخاذه وحده ناصراً يستنصر به ويعتمد عليه، ويتوجه إليه في الملمات.. إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها. فإما إخلاص الولاء لله- بهذه المعاني كلها- فهو الإسلام. وإما إشراك غيره معه في أي منها، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام!
وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع:
{قل: أغير الله أتخذ ولياً، فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين}.
إنه منطق الفطرة القوي العميق.. لمن يكون الولاء ولمن يتمحض؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاماً؟
{قل: أغير الله أتخذ ولياً}.. وهذه صفاته سبحانه.. أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله ولياً؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه، فالله هو فاطر السماوات والأرض، فله السلطان في السماوات والأرض. وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض. ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق؟
ثم.. {قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين}.. والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله ولياً. فاتخاذ غير الله ولياً- بأي معنى- هو الشرك. ولن يكون الشرك إسلاماً..
قضية واحدة محددة، لا تقبل ليناً ولا تميعاً.. إما إفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها؛ وولاء القلب والعمل، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك.. إما هذا كله فهو الإسلام.. وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك. الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة؛ ليجعل لآلهتهم مكاناً في دينه، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين. وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم،.. وأولها تقاليد التحريم والتحليل.. في مقابل أن يكفوا عن معارضته، وأن يجعلوه رئيساً فيهم؛ ويجمعوا له من مالهم، ويزوجوه أجمل بناتهم!
لقد كانوا يرفعون يداً للإيذاء والحرب والتنكيل، ويمدون يداً بالإغراء والمصالحة واللين..
وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف، وبهذا الحسم الصريح، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالاً للتمييع.
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع؛ في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد:
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين}..
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه أمر ربه له؛ وتجسيم لخوفه من عذابه. العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمة من الله وفوزاً مبيناً. ولكنه في الوقت ذاته حملة مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان، وقلوب المشركين بالله في كل زمان.
حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم؛ يطلب الفريسة، ويحلق عليها، ويهجم ليأخذها. فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها! وإن أنفاس القاريء لهذا التصوير لتحتبس- وهو يتمثل المشهد- في انتظار هذه اللقطة الأخيرة!
ثم إنه لماذا يتخذ غير الله ولياً ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب؟.. ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء؛ ورجاء نفع الناس له بالسراء؟.. إن هذا كله بيد الله؛ وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب؛ وله القهر كذلك على العباد؛ وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء:
{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر؛ وتتبع مكامن الرغائب والمخافات، ومطارح الظنون والشبهات وتجلية هذا كله بنور العقيدة، وفرقان الإيمان، ووضوح التصور، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية. ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع، وفي جملة هذا القرآن:
وأخيراً تجيء قمة المد في هذه الموجة؛ ويجيء الإيقاع المدوي العميق؛ في موقف الإشهاد والإنذار والمفاصلة والتبرؤ من المشاركة في الشرك.. كل ذلك في رنة عالية، وفي حسم رهيب:
{قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله. شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد، قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}..
إن تتابع المقاطع والإيقاعات في الآية الواحدة عجيب؛ وإن هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة، ومشهداً مشهداً، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور..
فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه هذا الأمر.. ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله؛ ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه؛ والذي لا يزال يتصوره ناس في هذا الزمان، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلماً لله؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شؤون الحياة؛ وبينما هو يخضع لغير الله ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله!
ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه هؤلاء المشركين، ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم، وبين توحيده وشركهم، وبين إسلامه وجاهليتهم.
وليقرر لهم: أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه. وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق!
وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف:
{قل: أي شيء أكبر شهادة؟}..
أيّ شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة؟
وللتعميم المطلق، حتى لا يبقى في الوجود كله شيء لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة: يكون السؤال: {أي شيء أكبر شهادة؟}.
وكما يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال، فهو يؤمر كذلك بالجواب. ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم. ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع:
{قل: الله}..
نعم! فالله- سبحانه وتعالى- هو أكبر شهادة.. هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.. هو الذي لا شهادة بعد شهادته، ولا قول بعد قوله. فإذا قال فقد انتهى القول، وقد قضي الأمر.
فإذا أعلن هذه الحقيقة: حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة، أعلن لهم أنه- سبحانه- هو الشهيد بينه وبينهم في القضية:
{شهيد بيني وبينكم}..
على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد: وهو أولى من الوصل على تقدير: {قل الله شهيد بيني وبينكم}.
فإذا تقرر المبدأ: مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه، تضمنها هذا القرآن، الذي أوحاه إليه لينذرهم به؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته صلى الله عليه وسلم- أو من بعد. فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمناً:
{وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}..
فكل من بلغه هذا القرآن من الناس، بلغة يفهمها، ويحصل منها محتواه، فقد قامت عليه الحجة به، وبلغه الإنذار، وحق عليه العذاب، إن كذب بعد البلاغ.. (فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه، فلا تقوم عليه الحجة به؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة.. هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته)..
فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله- سبحانه- متضمنة في هذا القرآن، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه.
وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد:
{أئنكم لتشهدون أن مع الله ألهة أخرى؟ قل: لا أشهد قل إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}..
والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه، وبإيقاعاتها هذه، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل. فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق.
ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع، وجرت بها هذه الموجة.. إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات.. قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة.. هي قضية هذه العقيدة؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها. وإن العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة..
إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات، لتحدد على ضوئها موقفها، ولتسير على هذا الضوء في طريقها؛ وتحتاج- من ثم- أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات، لترسم طريقها على هداها.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم جاءها الإسلام مبنياً على قاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله.. شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله: ما الذي جاء بكم؟ فيقول: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلهاً خالقاً للكون؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد، ويقرون لهم بخصائص الألوهية- وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع- (وهي الأديان).. إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب.
فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من بعدما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!
فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلاً أمام هذه الآيات البينات!
ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء:
{قل: أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين}..
ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله ولياً- بكل معاني الولي.. وهي الخضوع والطاعة، والاستنصار والاستعانة.. يتعارض مع الإسلام، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس.. ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة.. الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء. ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات..
وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية:
{قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها، وبإعراضها وعنادها، وبالتوائها وكيدها، وبفسادها وانحلالها.. ما أحوج من يواجه هذا الشر كله، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر.. مخافة المعصية والولاء لغير الله. ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة.. واليقين بأن الضار والنافع هو الله. وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه. إن قلباً لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف إنشاء الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية.. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال!
ثم ما أحوج العصبة المؤمنة- بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر.
ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى. وأن تقول ما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم، تنفيذاً لأمر ربه العظيم:
{قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل: الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}..
إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض، من الجاهلية التي تغمر الأرض، هذا الموقف. لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية، قاطعة فاصلة، مزلزلة رهيبة.. ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه هو القاهر فوق عباده. وأن هؤلاء العباد- بما فيهم الطواغيت المتجبرون- أضعف من الذباب، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحداً إلا بإذن الله، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق. وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت، وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد، وتنذرها هذه النذارة، وتعلنها هذا الإعلان، وتفاصلها هذه المفاصلة، وتتبرأ منها هذه البراءة..
إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي؛ إنما جاء منهجاً مطلقاً خارجاً عن قيود الزمان والمكان. منهجاً تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن. وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماماً؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشئ الإسلام في الأرض إنشاء.. فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين. والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره. والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله.. لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة.. والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين..

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6